سورة المجادلة - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المجادلة)


        


{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)}
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} أي فمن لم يجد رقبة فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس، والمراد ن لم يجد من لم يملك رقبة ولا ثمنها فاضلًا عن قدر كفايته لأن قدرها مستحق الصرف فصار كالعدم، وقدر الكفاية من القوت للمحترف قوت يوم. وللذي يعمل قوت شهر على ما في البحر ومن له عبد يحتاج لخدمته واجد فلا يجزئه الصوم، وهذا بخلاف من له مسكن لأنه كلباسه ولباس أهله، وعند الشافعية المراد به من لم يملك رقبة أو ثمنها فاضلًا كل منهما عن كفاية نفسه وعياله العمر الغالب نفقة وكسوة وسكنى وأثاثًا لابد منه، وعن دينه ولو مؤجلًا.
وقالوا: إذا لم يفضل القنّ أو ثمنه عما ذكر لاحتياجه لخدمته لمنصب يأبى خدمته بنفسه أو ضخامة كذلك بحيث يحصل له بعتقه مشقة شديدة لا تحتمل عادة ولا أثر لفوات رفاهية أو مرض به أو مونه فلا عتق عليه لأنه فاقد شرعًا كمن وجد ماءًا وهو يحتاجه لعطش وإلى اعتبار كون ذلك فاقدًا كواجد الماء المذكور ذهب الليث أيضًا.
والفرق عندنا على ما ذكره الرازي في أحكام القرآن أن الماء مأمور بإمساكه لعطشه واستعماله محظور عليه بخلاف الخادم، واليسار والإعسار معتبران وقت التكفير والأداء، وبه قال مالك، وعن الشافعي أقوال في وقتهما أظهرها كما هو عندنا، قالوا: لأن الكفار أعني الإعتاق عبادة لها بدل من غير جنسها كوضوء وتيمم وقيام صلاة وقعودها فاعتبر وقت أدائها، وغلب الثاني كمذهب أحمد. والظاهرية شائبة العقوبة فاعتبر وقت الوجوب كما لو زنى قنّ ثم عتق فإنه يحدّ حدّ القنّ والثالث الأغلظ من الوجوب إلى الأداء، والرابع الأغلظ منهما، وأعرض عما بينهما.
ومن يملك ثمن رقبة إلا أنه دين على الناس فإن لم يقدر على أخذه من مديونه فهو فاقد فيجزئه الصوم وإن قدر فواجد فلا يجزئه وإن كان له مال ووجب عليه دين مثله فهو فاقد بعد قضاء الدين، وأما قبله فقيل فاقد أيضًا بناءًا على قول محمد أنه تحل له الصدقة المشير إلى أن ماله لكونه مستحقًا الصرف إلى الدين ملحق بالعدم حكمًا، وقيل: واجد لأن ملك المديون في ماله كامل بدليل أنه يملك جميع التصرفات فيه.
وفي البدائع لو كان في ملكه رقبة صالحة للتكفير فعليه تحريرها سواء كان عليه دين أو لم يكن لأنه واحد حقيقة، وحاصله أن الدين لا يمنع تحرير الرقبة الموجودة، ويمنع وجوب شرائها بما عنده من مثل الدين على أحد القولين، والظاهر أن الشراء متى وجب يعتبر فيه ثمن المثل، وصرح بذلك النووي.
وغيره من الشافعية فقالوا: لا يجب شراء الرقبة بغبن أي زيادة على ثمن مثلها نظير ما يذكر في شراء الماء للطهارة، والفرق بينهما بتكرر ذلك ضعيف، وعلى الأول كما قال الأذرعي. وغيره نقلًا عن الماوردي واعتمدوه لا يجوز العدول للصوم بل يلزمه الصبر إلى الوجود بثمن المثل، وكذا لو غاب ماله فكيلف الصبر إلى وصوله أيضًا، ولا نظر إلى تضررهما بفوات التمتع مدة الصبر لأنه الذي ورط نفسه فيه انتهى.
وما ذكروه فيما لو غاب ماله موافق لمذهبنا فيه ولو كان عليه كفارتا ظهار لامرأتين وفي ملكه رقبة فقط فصام عن ظهار إحداهما، ثم أعتق عن ظهار الأخرى، ففي المحيط في نظير المسألة ما يقتضي عدم إجزاء الصوم عن الأولى قال: عليه كفارتا يمين، وعنده طعام يكفي لإحداهما فصام عن إحداهما ثم أطعم عن الأخرى لا يجوز صومه لأنه صام وهو قادر على التكفير بالمال فلا يجزئه، ويعتبر الشهر بالهلال فلا فرق بين التام والناقص فمن صام بالأهلة واتفق أن كل شهر تسعة وعشرون حتى صار مجموع الشهرين ثمانية وخمسين أجزأه ذلك وإن غم الهلال اعتبر كما في «المحيط» كل شهر ثلاثين وإن صام بغير الأهلة فلابد من ستين يومًا كما في «فتح القدير»، ويعتبر الشهر بالهلال عند الشافعية أيضًا، وقالوا: إن بدأ في أثناء شهر حسب الشهر بعده بالهلال لتمامه وأتم الأول من الثالث ثلاثين لتعذر الهلال فيه بتلفقه من شهرين، وعلى هذا يتفق كون صيامه ستين وكونه تسعة وخمسين، ولا يتعين الأول كما لا يخفى فلا تغفل، وإن أفطر يومًا من الشهرين ولو الأخير بعذر من مرض أو سفر لزم الاستئناف لزوال التتابع وهو قادر عليه عادة، وقال أبو حيان: إن أفطر بعذر كسفر فقال ابن المسيب. والحسن. وعطاء. وعمرو بن دينار. والشعبي. ومالك. والشافعي في أحد قوليه: يبنى اه، وإن جامع التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلًا عامدًا أو نهارًا ناسيًا استأنف الصوم عند أبي حنيفة. ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يستأنف لأنه لا يمنع التتابع إذ لا يفسد به الصوم وهو الشرط، ولهما أن المأمور به صيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما فإذا جامعها في خلالها لم يأت بالمأمور به، وإن جامع زوجة أخرى غير المظاهر منها ناسيًا لا يستأنف عند الإمام أيضًا كما لو أكل ناسيًا لأن حرمة الأكل والجماع إنما هو للصوم لئلا ينقطع التتابع ولا ينقطع بالنسيان فلا استئناف بخلاف حرمة جماع المظاهرة فإنه ليس للصوم بل لوقوعه قبل الكفارة، وتقدمها على المسيس شرط حلها، فبالجماع ناسيًا في أثنائه يبطل حكم الصوم المتقدم في حق الكفارة، ثم إنه يلزم في الشهرين أن لا يكون فيهما صوم رمضان لأن التتابع منصوص عليه وشهر رمضان لا يقع عن الظهار لما فيه من إبطال ما أوجب الله تعالى، وأن لا يكون فيهما الأيام التي نهى عن الصوم فيها وهي يوما العيدين وأيام التشريق لأن الصوم فيها ناقص بسبب النهي عنه فلا ينوب عن الواجب الكامل.
وفي البحر: المسافر في رمضان له أن يصومه عن واجب آخر، وفي المريض روايتان، وصوم أيام نذر معينة في أثناء الشهرين بنية الكفارة لا يقطع التتابع، ومن قدر على الإعتاق في اليوم الأخير من الشهرين قبل غروب الشمس وجب عليه الإعتاق لأن المراد استمرار عدم الوجود إلى فراغ صومهما وكان صومه حينئذٍ تطوعًا، والأفضل إتمام ذلك اليوم وإن أفطر لا قضاء عليه لأنه شرع فيه مسقطًا لا ملتزمًا خلافًا لزفر.
وفي تحفة الشافعية لو بان بعد صومهما أن له مالًا ورثه ولم يكن عالمًا به لم يعتدّ بصومه على الأوجه اعتبارًا بما في نفس الأمر أي وهو واجد بذلك الاعتبار، وليس في بالي حكم ذلك عند أصحابنا، ومقتضى ظاهر ما ذكروه فيمن تيمم وفي رحله ماء وضعه غيره ولم يعلم به من صحة تيممه الاعتداد بالصوم ههنا، وقد صرح الشافعية فيمن أدرج في رحله ماءًا ولم يقصر في طلبه أو كان بقربه بئر خفية الآثار بعدم بطلان تيممه فلينظر الفرق بين ما هنا وما هناك، ولعله التغليظ في أمر الكفارة دون التيمم فليرجع {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} أي صيام شهرين متتابعين، وذلك بأن لم يستطع أصل الصيام أو بأن لم يستطع تتابعه لسبب من الأسباب ككبر أو مرض لا يرجى زواله كما قيده بذلك ابن الهمام. وغيره وعليه أكثر الشافعية وقال الأقلون منهم كالإمام ومن تبعه وصححه في «الروضة»: يعتبر دوامه في ظنه مدة شهرين بالعادة الغالبة في مثله أو بقول الأطباء، قال ابن حجر: ويظهر الاكتفاء بقول عدل منهم، وصرح الشافعية بأن من تلحقه بالصيام أو تتابعه مشقة شديدة لا تحتمل عادة وإن لم تبح التيمم فيما يظهر غير مستطيع، وكذا من خاف زيادة مرض، وفي حديث أوس على ما ذكر أبو حيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال: والله يا رسول الله إني إذا لم آكل في اليوم والليلة ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني» الخبر، وعدوا من أسباب عدم الاستطاعة الشبق وهو شدة الغلمة.
واستدل له بما أخرج الإمام أحمد. وأبو داود. وابن ماجه. والترمذي وحسنه. والحاكم وصححه. وغيرهم عن سلمة بن صخر قال: كنت رجلًا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقًا من أن أصيب منها في ليلي فأتتابع في ذلك ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها إلى أن قال فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بخبري فقال:
«أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك، فقال: أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك وها أنا ذا فامض في حكم الله تعالى فإني صابر لذلك قال: أعتق رقبة فضربت صفحة عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال: فصم شهرين متتابعين، فقلت: وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال: فأطعم ستين مسكينًا» الحديث فإنه أشار بقوله: «وهل أصابني» إلخ إلى شدة شبقه الذي لا يستطيع معه صيام شهرين متتابعين، وإنما لم يكن عذرًا في صوم رمضان قال ابن حجر: لأنه لا بدل له، وذكر أن غلبة الجوع ليست عذرًا ابتداءًا لفقده حينئذٍ فيلزمه الشروع في الصيام فإذا عجز عنه أفطر. وانتقل عنه للإطعام بخلاف الشبق لوجوده عند الشروع فيدخل صاحبه في عموم قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ}.
{فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا} لكل مسكين نصف صاع من بر. أو صاع من تمر. أو شعير ودقيق كل كأصله، وكذا السويق، وذلك لأخبار ذكرها ابن الهمام في «فتح القدير»، والصاع أربعة أمداد.
وقال الشافعية: لكل مسكين مدّ لأنه صح في رواية، وصح في الأخرى صاع، وهي محمولة على بيان الجواز الصادق بالندب لتعذر النسخ فتعين الجمع بما ذكر مما يكون فطرة بأن يكون من غالب قوت محل المكفر في غالب السنة كالأقط ولو للبلدي فلا يجزىء نحو دقيق مما لا يجزى في الفطرة عندهم، ومذهب مالك كما قال أبو حيان مدّ وثلث بالمدّ النبوي، وروى عنه ابن وهب مدّان.
وقيل: مدّ وثلثا مدّ، وقيل: ما يشبع من غير تحديد، ولا فرق بين التمليك والإباحة عندنا فإن غدى الستين وعشاهم أو غدّاهم مرتين أو عشاهم كذلك أو غداهم وسحرهم أو سحرهم مرتين وأشبعهم بخبز بر أو شعير أو نحوه كذرة بإدام أجزأه، وإن لم يبلغ ما شبعوا به المقدار المعتبر في التمليك، ويعتبر اتحاد الستين فلو غدى مثلًا ستين مسكينًا وعشى ستين غيرهم لم يجز إلا أن يعيد على إحدى الطائفتين غداء أو عشاء، ولو أطعم مائة وعشرين مسكينًا في يوم واحد أكلة واحدة مشبعة لم يجز إلا عن نصف الإطعام فإن أعاده على ستين منهم أجزأه، واشترط الشافعية التمليك اعتبارًا بالزكاة وصدقة الفطر، وهذا لأن التمليك أدفع للحاجة فلا ينوب منابه الإباحة، ونحن نقول: المنصوص عليه هنا هو الإطعام وهو حقيقة في التمكين من الطعم، وفي الإباحة ذلك كما في التمليك، وفي الزكاة الإيتاء، وفي صدقة الفطر الأداء، وهما للتمليك حقيقة كذا في الهداية قال العلامة ابن الهمام: لا يقال: اتفقوا على جواز التمليك فلو كان حقيقة الإطعام ما ذكر كان مشتركًا معممًا أو في حقيقته ومجازه لأنا نقول: جواز التمليك عندنا بدلالة النص، والدلالة لا تمنع العمل بالحقيقة كما في حرمة الشتم والضرب مع التأفيف فكذا هذا فلما نص على دفع حاجة الأكل فالتمليك الذي هو سبب لدفع كل الحاجات التي من جملتها الأكل أجوز فإنه حينئذٍ دافع لحاجة الأكل وغيره، وذكر الواني أن الإطعام جعل الغير طاعمًا أي آكلًا لأن حقيقة طعمت الطعام أكلته، والهمزة تعديه إلى المفعول الثاني أي جعلته آكلًا، وأما نحو أطعمتك هذا الطعام فيكون هبة وتمليكًا بقرينة الحال، قالوا: والضابط أنه إذا ذكر المفعول الثاني فهو للتمليك وإلا فللإباحة، هذا والمذكور في كتب اللغة أن الإطعام إعطاء الطعام وهو أعم من أن يكون تمليكًا أو إباحة انتهى فلا تغفل.
ويجوز الجمع بين الإباحة والتمليك لبعض المساكين دون البعض كما إذا ملك ثلاثين وأطعم ثلاثين غداءًا وعشاءًا وكذا لرجل واحد في إحدى روايتين كأن غداة مثلًا وأعطاه مدًّا وإن أعطى مسكينًا واحدًا ستين يومًا أجزأه وإن أعطاه في يوم واحد لم يجزه إلا عن يومه لأن المقصود سدّ خلة المحتاج، والحاجة تتجدد في كل يوم، فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إليه في غيره، وهذا في الإباحة من غير خلاف، وأما التمليك من مسكين واحد بدفعات فقد قيل: لا يجزيه، وقيل: يجزيه لأن الحاجة إلى التمليك قد تتجدد في يوم واحد بخلاف ما إذا دفع بدفعة لأن التفريق واجب بالنص، وخالف الشافعية، فقالوا: لابد من الدفع إلى ستين مسكينًا حقيقة فلا يجزي الدفع لواحد في ستين يومًا، وهو مذهب مالك، والصحيح من مذهب أحمد وبه قال أكثر العلماء لأنه تعالى نص على ستين مسكيناف، وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين فكان التعليل بأن المقصود سدّ خلة المحتاج إلخ مبطلًا لمقتضى النص فلا يجوز، وأصحابنا أشدّ موافقة لهذا الأصل، ولذا قالوا: لا يجزىء الدفع لمسكين واحد وظيفة ستين بدفعة واحدة معللين له بأن التفريق واجب بالنص مع أن تفريق الدفع غير مصرح به، وإنما هو مدلول التزامي لعدد المساكين فالنص على العدد أولى لأنه المستلزم، وغاية ما يعطيه كلامهم أنه بتكرر الحاجة يتكرر المسكين حكما فكان تعددًا حكما، وتمامه موقوف على أن ستين مسكينًا في الآية مراد به الأعم من الستين حقيقة أو حكمًا.
ولا يخفى أنه مجاز فلا مصير إليه وجبه، فإن قلت: المعنى الذي باعتباره يصير اللفظ مجازًا ويندرج فيه التعدد الحكمي ما هو؟ قلت: هو الحاجة فيكون ستين سكينًا مجازًا عن ستين حاجة، وهو أعم من كونها حاجات ستين أو حاجات واحد إذا تحقق تكررها إلا أن الظاهر إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين مع عقلية أن العدد مما يقصد لما في تعميم الجميع من بركة الجماعة وشمول المنفعة واجتماع القلوب على المحبة والدعاء قاله في فتح القدير وهو كلام متين يظهر منه ترجيح مذهب الجمهور، وذهب الأصحاب إلى أنه لا يشترط اتحاد نوع المدفوع لكل من المساكين فلو دفع لواحد بعضًا من الحنطة وبعضًا من الشعير مثلا جاز إذا كان المجموع قدر الواجب كأن دفع ربع صاع من بر ونصف صاع من شعير، وجاز نحو هذا التكميل لاتحاد المقصود وهو الإطعام ولا يجوز دفع قيمة القدر الواجب من منصوص عليه، وهو البر.
والشعير. ودقيق كل، وسويقه. والزبيب. والتمر إذا كانت من منصوص عليه آخر إلا أن يبلغ المدفوع الكمية المقدرة شرعًا فلو دفع نصف صاع تمر يبلغ قيمة نصف صاع بر لا يجوز، فالواجب عليه أن يتم للذين أعطاهم القدر المقدر من ذلك الجنس الذي دفعه إليهم فإن لم يجدهم بأعيانهم استأنف في غيرهم، ومن غير المنصوص كالأرز. والعدس يجوز كما إذا دفع ربع صاع من أرز يساوي قيمة نصف صاع من بر مثلًا، وذلك لأنه لا اعتبار لمعنى النص في المنصوص عليه وإنما الاعتبار في غير المنصوص عليه، ونقل في ذلك خلاف الشافعي رحمه الله تعالى فلا يجوز دفع القيمة عنده مطلقًا، ولا يجوز في الكفارة إعطاء المسكين أقل من نصف صاع من البر مثلاٌ فقط، ففي التاتار خانية لو أعطى ستين مسكينًا كل مسكين مدًّا من الحنطة لم يجز، وعليه أن يعيد مدًّا آخر على كل فإن لم يجد الأولين فأعطى ستين آخرين كلا مدًّا لم يجز، ولو أعطى كلا من المساكين مدًّا ثم استغنوا ثم افتقروا فأعاد على كل مدًّا لم يجز، وكذا لو أعطى المكاتبين مدًّا مدًّا ثم ردوا إلى الرق ومواليهم أغنياء ثم كوتبوا ثانيًا ثم أعاد عليهم لم يجز لأنهم صاروا بحال لا يجوز دفع الكفارة إليهم فصاروا كجنس آخر، وعليه فالمراد بستين مسكينًا ستون مسكينًا لم يعرض لهم في أثناء الإطعام ما ينافي ذلك، والظاهر أن فاعل إطعام هو المظاهر الغير المستطيع للصيام، ولا فرق بين أن يباشر ذلك أو يأمر به غيره، فإن أمر غيره فاطعم أجزأ لأنه استقراض معنى، فالفقير قابض له أولا ثم يتحقق تملكه ثم تمليكه، والمراد بالمسكين ما يعم الفقير، وقد قالوا: المسكين والفقير إذا اجتمعا افترقا وإذا اقترفا اجتمعا، ويشترط أن لا يكون المطعم أصله.
أو فرعه. أو زوجته. أو مملوكه. أو هاشميًا لمزيد شرفه فيجل عن هذه الغسالة، ولا حربيًا ولو مستأمنًا لمزيد خسته فليس أهلًا لأدنى منفعة، ويجوز أن يكون ذميًا ولو دفع بتحرّ فبان أنه ليس صرف أجزأه عندهما خلافًا لأبي يوسف كما في البدائع.
واستنبط الشافعية من التعبير بعدم الوجود عند الانتقال إلى الصوم، وبعدم الاستطاعة عند الانتقال إلى الإطعام أنه لو كان له مال غائب ينتظره ولا يصوم ولو كان مريضًا يرجى برؤه يطعم ولا ينتظر الصحة ليصوم، وهو موافق لمذهبنا في الصوم لا في الاطعام كما سمعت، ثم هذا الحكم في الأحرار أما العبد فلا يجوز له إلا الصوم لأنه لا يملك وإن ملك والاعتاق والإطعام شرطهما الملك فإن أعتق عنه المولى أو أطعم لم يجز ولو بأمره، ويجب تقديم الإطعام على المسيس فإن قريب المظاهر المظاهرة في خلاله أثم، ولم يستأنف لأنه عز وجل ما شرط فيه أن يكون قبل المسيس كما شرط فيما قبل، ونحن لا نحمل المطلق على المقيد وإن كانا في حادثة واحدة بعد أن يكونا حكمين، والوجوب قيل: لم يثبت إلا لتوهم وقوع الكفارة بعد التماس بيانه أنه لو قدر على العتق أو الصيام في خلال الاطعام أو قبله يلزمه التكفير بالمقدور عليه فلو جوز للعاجز عنهم القربان قبل الإطعام، ثم اتفق قدرته فلزمالتكفير به لزم أن يقع العتق بعد التماس، والمفضى إلى الممتنع ممتنع.
وتعقب بأن فيه نظرًا فإن القدرة حال قيام العجز بالفقر والكبر والمرض الذي لا يرجى زواله أمر موهوم، وباعتبار الأمور الموهومة لا تثبت الأحكام ابتداءًا بل يثبت الاستحباب ورعا فالأولى الاستدلال على حرمة المسيس قبل الإطعام لمن يتعين كفارة له بما ورد من حديث: «اعتزالها حتى تكفر» ونحوه، وما ذكر من أنه لو قدر على العتق مثلا خلال الإطعام لزم التكفير به خالف فيه الشافعية.
قال ابن حجر عليه الرحمة: لا أثر لقدرته على صوم أو عتق بعد الاطعام ولو لمدّ كما لو شرع في صوم يوم من الشهرين فقدر على العتق، وأجاز بعض المسيس في خلال الاطعام من غير إثم، ونقل ذلك عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وهو توهم نشأ من عدم إيجابه الاستئناف، وقد صرح في الكشاف بأنه لا فرق عند أبي حنيفة بين الكفارات الثلاث في وجوب تقديمها على المساس وإن ترك ذكره عند الإطعام للدلالة على أنه إذا وجد في خلال الإطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم.
وجعل بعضهم ذكر القيد فيما قبل وتركه في الإطعام دليلًا لأبي حنيفة في قوله: بعدم الاستئناف أي مع الإثم.
وتعقبه ابن المنير في الانتصاف بأن لقائل أن يقول لأبي حنيفة: إذا جعلت الفائدة في ذكر عدم التماس في بعضها وإسقاطه من بعضها الفرق بين أنواعها فلم جعلته مؤثرًا في أحد الحكمين دون الآخر؟ وهل التخصيص إلا نوع من التحكم؟ ثم قال: وله أن يقول: اتفقنا على التسوية بين الثلاث في هذا الحكم أعني حرمة المساس قبل التكفير، وقد نطقت الآية بالتفرقة فلم يمكن صرفها إلى ما وقع الاتفاق على التسوية فيه فتعين صرفه إلى الآخر، هذا منتهى النظر مع أبي حنيفة؛ وأطال الكلام في هذا المقام بما لا يخلو عن بحث على أصول الإمام.
وإذا عجز المظاهر عن الجميع قال الشافعية: استقرت في ذمته فإذا قدر على خصلة فعلها ولا أثر لقدرته على بعض عتق أو صوم بخلاف بعض الطعام ولو بعض ما يجب لواحد من المساكين فيخرجه، ثم الباقي إذا أيسر، والظاهر بقاء حرمة المسيس إلى أن يؤدي الكفارة تمامًا ولم يبال باضرار المرأة بذلك لأن الأيسار مترقب كزوال المرض المانع من الجماع، ولم أراجع حكم المسألة في الظاهر عند الحنفية، وأما في الجماع في نهار رمضان الموجب للكفارة فقد قال ابن الهمام بعد نقل حديث الأعرابي الواقع على امرأته فيه العاجر عن الخصال الثلاثة، وفيه: «فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال: تصدق به، فقال: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أفقر مني ولا أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: خذه فأطعمه أهلك» في لفظ لأبي داود زاد الزهري وإنما كان هذا رخصة له خاصة، ولو أن رجلًا فعل ذلك اليوم لم يكن له بدّ من التكفير، وجمهور العلماء على قوله، وذكر النووي في «شرح صحيح مسلم» أن للشافعي في هذا العاجز قولين: أحدهما لا شيء عليه واحتج له بحديث الأعرابي المذكور عليه الصلاة والسلام لم يقل له: إن الكفارة ثابتة في ذمته بل أذن له في إطعام عياله والثاني وهو الصحيح عند أصحابنا وهو المختار أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يتمكن قياسًا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد وغيره، وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة بل فيه دليل لاستقرارها لأنه أخبر النبي: صلى الله عليه وسلم بالعجز عن الخصال ثم أتى عليه الصلاة والسلام بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء فلم يأمره بالإخراج فدل على ثبوتها في ذمته، وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه محتاج إلى الإنفاق عليهم في الحال والكفارة واجبة على التراخي، وإنما لم يبين عليه الصلاة والسلام بقاءها في ذمته لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند جماهير الأصوليين فهذا هو الصواب في معنى الحديث، وحكم المسألة وفيها أقوال وتأويلاتأخر ضعيفة انتهى.
ومن الناس من قال: لم يكن هناك تأخير بيان وإنما اكتفى صلى الله عليه وسلم بفهم الأعرابي عن التصريح له بالاستقرار، والاخبار في وقوع مثل ذلك للمظاهر مضطربة كما لا يخفى على من راجع الدر المنثور للسيوطي.
ومسائل الظاهر كثيرة والمذاهب في ذلك مختلفة، ومن أراد كمال الاطلاع فليرجع إلى كتب الفروع، ولولا التأسي ببعض الأجلة لما ذكرنا شيئًا منها، ومع هذا لا يخلو أكثره عن تعلق بتفسير الآية والله تعالى أعلم.
{ذلك} إشارة إلى ما مر من البيان والتعليم، ومحله إما الرفع على الابتداء أو النصب ضمر معلل بما بعده أي ذلك واقع أو فعلنا ذلك {لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم {وَتِلْكَ} الأحكام المذكورة {حُدُودَ الله} التي لا يجوز تعديها فالزموها وقفوا عندها {وللكافرين} أي الذين يتعدونها ولا يعملون بها {عَذَابٌ أَلِيمٌ} على كفرهم وأطلق الكافر على متعدى الحدود تغليظًا لزجره، ونظير ذلك قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 97].


{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)}
{إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ} أي يعادونهما ويشاقونهما لأن كلا من المتعاديين في حدّ وجهة غير حدّ الآخر وجهته كما أن كلا منهما في عدوة وشق غير عدوة الآخر وشقه، وقيل: إطلاق ذلك على المتعاديين باعتبار استعمال الحديد لكثرة ما يقع بينهما من المحاربة بالحديد كالسيوف والنصال وغيرها، والأول أظهر، وفي ذكر المحادّة في أثناء ذكر حدود الله تعالى دون المعاداة والمشاقة حسن موقع جاوز الحد، وقال ناصر الدين البيضاوي: أو يضعون أو يختارون حدودًا غير حدود الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومناسبته لما قبله في غاية الظهور.
قال الملوى شيخ الإسلام سعد الله جلبي: وعلى هذا ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أمورًا خلاف ما حده الشرع وسموها اليسا والقانون، والله تعالى المستعان على ما يصفون اه، وقال شهاب الدين الخفاجي بعد نقله: وقد صنف العارف بالله الشيخ بهاء الدين قدس الله تعالى روحه رسالة في كفر من يقول: يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما، وقد قال الله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا يقبل التكميل، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ولكن أين من يعقل؟ا انتهى.
وليتني رأيت هذه الرسالة وقفت على ما فيها فإن إطلاق القول بالكفر مشكل عندي فتأمل، ثم إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد على وجه يحسن به إياك أن تقول في مجلسنا: المسألة شرعا كذا، وقد أصابني منه عامله الله بعدله لعدولي عن قوله مزيد الأذى، واتفق أن قال لي بعض خاصته يومًا: أرى ثلثي الشرع شرًا، فقلت له وإن كنت عالمًا أن في أذنيه وقرًا: نعم ظهر الشر لما أذهبتم من الشرع العين، ولم تأخذوا من اسمه سوى حرفين؛ فتأمل العبارة وتغير وجهه لما فهم الإشارة، والذي ينبغي أن يقال في ذلك: إن ما يرجع من تلك الأصول إلى ما يتعلق بسوق الجيوش وتعبئتهم وتعليمهم ما يلزم في الحرب مما يغلب على الظن الغلبة به على الكفرة وما يتعلق بأحكام المدن والقلاع ونحو ذلك لا بأس في أكثره على ما نعلم، وكذا ما يتعلق بجزاء ذوي الجنايات التي لم يرد فيها عن السارع حد خصوص بل فوض التأديب عليها إلى رأي الإمام كأنواع التعاذير، وللإمام أن يستوفي ذلك وإن عفا المجني عليه لأن الساقط به حق الآدمي والذي يستوفيه الإمام حق الله تعالى للمصلحة كما نص على ذلك العلامة ابن حجر في «شرح المنهاج»، والقواعد لا تأباه، نعم ينبغي أن يجتنب في ذلك الإفراط والتفريط، وقد شاهدنا في في العراق مما يسمونه «جزاءًا» ما القتل أهون منه بكثير.
ومثل ذلك ظلم عظيم وتعد كبير.
وأما ما يتعلق بالحدود الآلهية كقطع السارق. ورجم الزاني المحصن. وما فصل في حق قطاع الطريق من قطع الأيدي والأرجل من خلاف وغيره مما فصل في آيتهن إلى غير ذلك فظاهر أمره دخوله في حكم الآية هنا على ما ذكره البيضاوي.
وأما ما يتعلق بالمعاملات والعقود فإن كان موافقًا لما ورد عن الشارع فيها من الصحة وعدمها سميناه «شرعًا» ولا نسميه «قانونًا» و«أصولًا» وإن لم يكن موافقًا لذلك كالحكم في إعطاء الربا مثلا المسمى عندهم بالكرشتة لزعم أنه تتعطل مصالح الناس لو لم يحكم بذلك فهو حكم بغير ما أنزل الله عز وجل.
وأما ما يتعلق بحق بين المال في الأراض فما كان موافقًا لعمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين فذاك وما كان مخالفًا لعمل الخلفاء الصادر منهم باجتهاد فإن كانت مخالفته إلى ما هو أسهل وأنفع للناس فنظرًا إلى زمانهم فهو مما لا بأس فيه، وإن كانت مخالفته إلى ما هو أشق ففيه بأس، ولا يجري هذا التفصيل فيما وصفه رسول الله عليه الصلاة والسلام كالعشر في بعض الأراضي التي فتحت في زمنه الشريف صلى الله عليه وسلم فإنه لا تجوز المخالفة فيه أصلًا على ما ذكره أبو يوسف في «كتاب الخراج» وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة بحسب الظاهر بأن لم يكن منصوصًا عليه فإن كان يندرج في العمومات المنصوص عليها في أمر الأراضي فذاك وإلا فقبوله ورده باعتبار المدخول في العمومات الواردة في الحظر والإباحة فإن دخل في عمومات الإباحة قبل وإن في عمومات الحظر رد، وأمر تكفير العامل بالأصول المذكورة خطر فلا ينبغي إطلاق القول فيه، نعم لا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بين المخالفة للشرع منها ويقدمه على الأحكام الشرعية متنقصًا لها به، ولقد سمعت بعض خاصة أتباع بعض الولاة يقول: وإن تلك الأحكام أصول وقوانين سياسية كانت حسنة في الأزمنة المتقدمة لما كان أكثر الناس بلهًا، وأما اليوم فلا يستقيم أمر السياسة بها والأصول الجديدة أحسن وأوفق للعقل منها، ويقول كلما ذكرها: الأصول المستحسنة، وكان يرشح كلامه بنفي رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وكذا رسالة الأنبياء عليهم السلام قبله، ويزعم أنهم كانوا حكماء في أوقاتهم توصلوا إلى أغراضهم بوضع ما ادعوا فيه أنه وحي من الله تعالى، فهذا وأمثاله مما لا شك في كفره وفي كفر من يدعي للمرافعة عند القاضي فيأبى إلا المرافعة قتضى تلك الأصول عند أهل تلك الأصول راضيًا بما يقضون به عليه تردد وإنما لم يجزم بكفره مع قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65] لأن حكم أكثر القضاة مخالف لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر المسائل، والبلية العظمى أنهم يسمون ذلك شرعًا ومع ذلك يأخذون عليه ما يأخذون من المال ظلمًا فلمن لم يرض بالمرافعة عند هؤلاء القضاء العجزة ويرضى بالمرافعة عند أهل الأصول عذر لذلك الانتظام ويصلح أمر الخاص والعام، ومنها تعيين مراتب التأديب والزجر على معاص وجنايات لم ينص الشارع فيها على حد معين بل فوض الأمر في ذلك لرأي الإمام فليس ذلك من المحادّة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في شيء بل فيه استيفاء حقه تعالى على أتم وجه لما فيه من الزجر عن المعاصي وهو أمر مهم للشارع عليه الصلاة والسلام، ويرشد إليه ما في تحفة المحتاج أن للإمام أن يستوفي التعزير إذا عفى صاحب الحق لأن الساقط بالعفو هو حق الآدمي، والذي يستوفيه الإمام هو حق الله تعالى للمصلحة، وفي «كتاب الخراج» للإمام أبي يوسف عليه الرحمة إشارة إلى ذلك أيضًا؛ ولا يعكر على ذلك ونحوه قوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] لأن المراد إكماله من حيث تضمنه ما يدل على حكمه تعالى خصوصًا أو عمومًا، ويرشد إلى هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين إذا قال بشيء لم يكن منصوصًا عليه بخصوصه، ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامه، نعم القانون الذي يكون وراء ذلك بأن كان مصادمًا لما نطقت به الشريعة الغراء زائغًا عن سنن المحجة البيضاء فيه ما فيه كما لا يخفى على العارف النبيه، وقد يقال في الآية على المعنى الذي ذكره البيضاوي: إن المراد بالموصول الواضعون لحدود الكفر وقوانينه كائمة الكفر أو المختارون لها العاملون بها كأتباعهم، ثم إن الآية على ما في البحر نزلت في كفار قريش {كُبِتُواْ} أي أخزوا كما قال قتادة، أو غيظوا كما قال الفراء أو ردّوا مخذولين كما قال ابن زيد أو أهلكوا كما قال أبو عبيدة. والأخفش.
وعن أبي عبيدة أن تاءه بدل من الدال، والأصل كبدوا أي أصابهم داء في أكبادهم، وقال السدى: لعنوا، وقيل: الكبت الكب وهو الإلقاء على الوجه، وفسره الراغب هنا بالرد بعنف وتذليل، وذلك إشارة عند الأكثرين إلى ما كان يوم الخندق، وقيل: إلى ما كان يوم بدر، وقيل: معنى {كُبِتُواْ} سيكبتون على طريقة قوله تعالى: {اتِى أَمْرِ الله} [النحل: 1] وهو بشارة للمؤمنين بالنصر على الكفار وتحقق كبتهم.
{كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من كفار الأمم الماضية المحادّين لله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام {وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات} حال من واو {كُبِتُواْ} أي كبتوا لمحادّتهم، والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله تعالى ورسوله من قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم، وقيل: آيات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به {وللكافرين} أي بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به فتدخل فيه تلك الآيات دخولًا أوليًا {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذهب بعزهم وكبرهم.


{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بما عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)}
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله} منصوب بما تعلق به اللام من الاستقرار، أو هين أو باضمار اذكر أي أذكر ذلك اليوم تعظيمًا له وتهويلًا، وقيل: منصوب بيكون مضمرًا على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء؟ فقيل له: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ} أي يكون يوم الخ، وقيل: بالكافرين وليس بشيء، وقوله تعالى: {جَمِيعًا} حال جيء به للتأكيد، والمعنى يبعثهم الله تعالى كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد غير مبعوث، ويجوز أن يكون حالا غير مؤكدة أي يبعثهم مجتمعين في صعيد واحد {فَيُنَبّئُهُمْ بما عَمِلُواْ} من القبائح ببيان صدورها عنهم أو بتصويرها في تلك النشأة ايليق بها من الصور الهائلة على رؤوس الاشهاد تخجيلًا لهم وتشهيرًا بحالهم وزيادة في خزيهم ونكالهم، وقوله تعالى: {أحصاه الله} استئناف وقع جوابًا عما نشأ مما قبله من السؤال إما عن كيفية التنبئة أو عن سببها كأنه قيل: كيف ينبئهم بأعمالهم وهي أعراض متقضية متلاشية؟ فقيل: أحصاه الله تعالى عددًا ولم يفته سبحانه منه شيء، وقوله تعالى: {وَنَسُوهُ} حينئذ حال من مفعول أحصى باضمار قد أو بدونه، أو قيل: لم ينبئهم بذلك؟ فقيل: أحصاه الله تعالى ونسوه فينبئهم به ليعرفوا أن ما عاينوه من العذاب إنما حاق بهم لأجله، وفيه مزيد توبيخ وتنديم لهم غير التخجيل والتشهير {والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ} لا يغيب عنه أمر من الأمور أصلا، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لإحصائه تعالى أعمالهم، وقوله تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8